“نسرين” تعود إلى “حيفا” بعد غياب!
بقلم/ ياسمين عنبر✏️
سلسلة “على برش زنزانة”⛓️
في زنزانة رقم (9) بسجن الدامون، تستيقظ “نسرين أبو كميل” على صوت السجانة التي تفتح قفل الباب بقوة وتصدر صوتًا يفزع الأسيرات، وتنادي “عدد”.. أصاب “نسرين” الدهشة وسكنها الاستغراب، حين انتبهت أن عقارب الساعة تشير إلى الخامسة فجرًا وليس “السادسة و15 دقيقة” كما اعتادت طوال السنوات الخمس في سجنها.
بغضب كبير عدت السجانة الأسيرات، وانتقلت إلى الغرف الثلاثة الأخرى، حدثت “نسرين” نفسها والأسيرات اللاتي كانت نصف عيونهن مغلقة بقولها: “يبدو أن هناك حدثًا كبيرًا عند الأسرى لذلك بكروا في العدد هذا الصباح”، وذهبت تفتح التلفاز علها تعرف عبر نشرة الأخبار سبب الاستنفار الذي بدا في السجن.
“خروج ستة أسرى عبر نفق من زنزانتهم في سجن جلبوع”، قرأت نسرين هذا الخبر العاجل على الشاشة مع غضب باد على وجه المذيع في القناة العبرية “12”، فهي القناة الوحيدة التي تبث بوضوح هناك.
لم تستطع “نسرين” كتم فرحتها، أسرعت نحو باب الزنزانة وبصوت تملؤه البهجة وبكل ما أوتيت من قوة رفعت صوتها وأخبرت الأسيرات اللاتي يمكثن في الغرف المجاورة بالخبر، لتبدأ الأسيرات بالتكبير والتهليل، فقد بدا ذاك اليوم كما وصفته نسرين “يوم العيد”.
روت لنا الأسيرة “نسرين أبو كميل” هذه التفاصيل المبهجة التي تحاول الأسيرات اختلاسها في السجن رغم أنف الاحتلال، من وسط كل المعاناة التي يقاسينها في زنازين رطبة لا تصلح للعيش الآدمي، فقد كان سؤالنا لها: “ما هي اللحظة الجميلة التي لا تنساها ذاكرة نسرين بعد تحررها من السجن؟”،
بدا ذلك حين ضحكت ملء فمها وأخبرتنا أن بعد الحادثة بساعتين اقتحمت قوات القمع الزنازين كافة، وصادرت كل الملاعق منها، بعد أن أخبرتهم إدارة مصلحة السجون أن أسرى نفق الحرية قد حفروا النفق “بالملعقة”❗
“نسرين أبو كميل” كانت أول ضيفاتنا اللاتي سنتحدث معهن في سلسلة “على برش زنزانة”،
هي ابنة “حيفا”، عروسُ البحر، فعلى مدرجات الكرمل كانت طفولتها، وفي جامعة “حيفا” درست نسرين “هندسة الحاسوب” شابة، ثم انتقلت إلى غزة لتتزوج فيها ومكثت بها 17 عامًا…
“عدت إلى حيفا…لكن أسيرة” هكذا قالت “نسرين” بصوت مرتجف وحزين، فقد سجنت في “سجن الدامون” على جبل الكرمل لتقبع هناك ست سنوات ونصف، تاركة خلفها سبعة أطفال حرموا من حنانها حين ألقى الاحتلال بها في غياهب الجب.
الأسيرة “نسرين أبو كميل” من حيفا، والمتزوجة في غزة من “حازم أبو كميل” عام 1999م، كانت قد غادرت غزة عبر حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، في الثامن عشر من تشرين الأول/أكتوبر عام 2015م، ليحتجزها الاحتلال ويخضعها للتحقيق، ويدلي بحقها مجموعة كبيرة من التهم التي تصفها “بالباطلة”، حيث اتجهت إلى حاجز إيرز بعد أن تلقت اتصالًا هاتفيًّا من مخابرات الاحتلال لاستلام تصريح للسماح لها بالدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كونها من سكان “حيفا”.
بينما “نسرين” داخل أقبية التحقيق، تتعرض لأبشع طرقه، فإن عائلتها بغزة تنتظر عودتها في نفس اليوم، وطفلها الذي يبلغ ثمانية شهور بانتظار أمه كي ترضعه!
بعد يومين تلقت العائلة اتصالًا أنه تم اعتقال “نسرين”، في حين تنتظر عائلتها عودتها، لتفاجأ أن الأيام تمر، بل الشهور، ثم السنون!
“على برش زنزانتها” عانت “نسرين الأمرين، زنزانة رطبة، أكل سيئ، معاملة قاسية، مرض لعين ينهش بجسدها، إلى المحكمة تذهب عبر سيارة البوسطة وهي التي يسميها الأسرى “رحلة عذاب” أو “قبور متحركة”، حنين لأبنائها، لا يزورها أحد بسبب منع الاحتلال، لا تهاتف أحدًا تضييقًا وتنغيصًا عليها، على برشها تعيش الحسرة والقلق، المرض والتعب، كما المعاناة اليومية للسجن، عدا عن تدهور صحتها وإصابتها بأمراض كثيرة خاصة “سرطان في الثدي”.
لم نسأل “نسرين” عن أقسى ما رأته في سجنها، فدون أن نسألها سالت عبراتها راوية قصة مرضها، فهل لك أن تتخيل كيف تذهب نسرين مكبلة القدمين واليدين إلى المستشفى، وهل لك أن تتخيل أنها خضعت لعملية استئصال الورم السرطاني من ثديها دون فك الكلبشات!😔
تحكي لنا “نسرين” عن لحظة استيقاظها من العملية، متعبة، مكبلة بيدها وقدمها بسرير المستشفى، قبالتها تقف سجانة بملامح قاسية وتقاسيم وجهٍ غاضبة، تجبرها على المشي نحو سيارة البوسطة بمجرد انتهاء العملية وهي التي لا تقوى أن تحرك ساكنًا لحظتها.. لتفاجأ بأنهم سيرجعونها إلى الزنزانة، وحين وصلت زجتها السجانة فيها ورمت لها “حبة أكامول” وكأس ماء❗
من قمة الحزن التي روت فيه “نسرين” هذا الموقف، تغيرت نبرتها وذبذبات صوتها إلى فرح كبير، حين قالت: “دعيني أخبرك ياسمين عن موقف نجاح ابني البكر فراس”.
تضحك نسرين قائلة: “طوال الليل لم أعرف للنوم سبيلًا، فقد أخبرني زوجي عبر الراديو خلال البرنامج الذي يتصل به أهالي الأسيرات، أن صباح الغد سيكون الإعلان عن نتائج امتحانات الثانوية العامة”.
“كبر فراس وأنا في السجن، تركته ابن الثالثة عشر، أول فرحتي، عزوتي في بعدي عن أهلي، حبيبي فراس وسندي”، هكذا قالت مبتهجة، وراحت تصف لنا شعورها في ذاك اليوم.
“لم أنم طوال الليل، أدعو، أبتهل، أسأل الله فرحة تجبر قلبي”، وعند الساعة السابعة، تقول: “استنفرت وأشعلت كل القنوات والإذاعات التي يمكن من خلالها أن أعرف نتيجة ابني، القلق سكنني، ليطل الساعة الثامنة مذيع قناة الأقصى: “اليوم نريد أن نهنئ الأسيرة نسرين أبو كميل بنجاح ابنها البكر وتفوقه”، هللتُ، وزغردت لي الأسيرات، اجتمعن حولي، صنعن الحلويات بإمكانيات بسيطة، أقمن حفلة لي، باركن لي، ليأتي “فراس” في لقطة عبر لقاء صحفي ويبلسم قلبي بعبارته التي لن أنساها ما حييت: “هذا النجاح أهديه لأمي في سجن الدامون، الفرحة هذه لكِ اليوم”، فسجدت شاكرة!
يوم الزيارة، كانت تجلس “نسرين” على برشها، حزينة، منع الاحتلال أطفالها من الزيارة، تبكي سرًا، حتى لا تفسد على الأسيرات فرحتهن!
تكوي لهن الملابس، وتساعدهن بتجهيز أنفسهن، تبلغهن السلام لأمهاتهن، يخرجن الأسيرات للزيارة “45 دقيقة”.. تعود “نسرين” إلى برشها، تحتضن صور أبنائها، تقبلهم، تتحدث معهم، تخونها قوتها فتبكي!
قبل عام تحررت “نسرين”، بجسد ينهشه المرض، لتجد أطفالها بانتظارها تلمسهم بحنانها فيبرؤون من الخوف، تحلم “نسرين” أن تعود إلى حيفا، إلى مدرجات الكرمل، إلى حدائق البهائية، ولكن تعود وقد نُسف من جبلها زنازين القهر بعد تبييض السجون بصفقة مشرفة!




